-A +A
يحيى حلبي
تدور «فسيلة الحياة» حول فلك الشّتات والخيارات الصّعبة، تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم إجابات، ترسم مصائر أفراد وتلعب بها أحياناً. ففي باكورته الرّوائية، يقدّم القطري هاشم السّيد، بورتريا مصغّرا ومكثّفا عن قصّة عائلية، قصّة تبدأ بسيطة وخطيّة وسرعان ما تتحوّل إلى جزء من تاريخ مشترك، ونموذج من تيه «العربي» في البحث عن سيرته الأساسية، في كتابة حلزونية، كلّ نهاية فيها تحيلنا إلى البداية.

في «فسيلة الحياة» (حبر الشّرق، باريس، 2016)، تصير المرأة صوتاً منفرداً في مواجهة البطريركية الشّمولية، تمسك قدرها بيديها وتمشي به، فبطلة الرّواية «فاطمة»، هي تارة شخصية تختفي وراء حياتها الصّحراوية، وراوٍ عليم تارة أخرى، تنوب عن رجال القبيلة، في حكي قصّتها وقصصهم، في سرد ماضيها واستشراف مآلاتهم، تتحمّل وزر الكلام والبوح في عالم شبه صامت، تتخلّص من عباءة «الدّونية» التي حاول الآخرون أن يلبسوها إياها، تستقلّ بنفسها وتتحوّل إلى ناطق باسم الجماعة.


تبدأ الحكاية من يوم ميلاد فاطمة، كما ترويه والدتها باقتضاب، في «يوم ماطر»، وفي عائلة بسيطة، من أب تاجر بسيط، وعمٍ راع غنم، وفي قرية منسية، لا تذكرها كتب التّاريخ، والمطر يكاد لا يمرّ عليها سوى نادراً، وبقسوة أحياناً. ستكبر وسط إناث أخريات كثيرات: أمّها، زوجة عمّها وبناتهن، فالعائلة لا تنجب ذكوراً، وتحمل فاطمة –وحيدة والديها– همّ حفظ النّسل، ومشقّة حفظ اسم عائلة الخفيف. هي كانت راضية بقدرها –إلى حدّ ما– لكن والدتها لم تكن كذلك، فقد كانت تتمنّى إنجاب طفل، ذكر، وريث، فالنّساء «لا يورثن العائلة»، وجاءت فاطمة (عكس أمنياتها)، هكذا صارت تتعامل مع ابنتها أحيانا كما لو أنها ذكر. «منذ الطّفولة وجدت أبي يُعاملني بطريقة لا تتقاطع مع طريقة والدتي. إذا إنني مازلت أتذكّر ذلك اليوم الذي كنت ألهو فيه، في الباحة الخلفية للبيت (..) دلفت إليّ أمي واقتادتني من يدي، والدّمى تتساقط من حضني، وأخذتني إلى داخل البيت، أغلقت الباب وأخرجت من صندوقها ملابس جديدة، لكنها لم تكن سوى ملابس أولاد. أخذت باهتمام غريب تخلع عنّي ملابسي، وتلبسني ما أخرجته من الصّندوق. ثم أخذت تدربّني على طريقة مشية الذّكور، وطريقتهم في الكلام وملامحهم حين يصابون بالنّزق (..)» تقول فاطمة.

فاطمة ستجد نفسها أنثى بهموم ذكر، فالرّواية تلعب على الثّنائيات والتّناقضات. في قرية صحراوية، بلا ماضٍِ معلوم، تصير فاطمة ليست مكلّفة فقط بحفظ نسل عائلتها، بل بسرد قصص نساء يتشابهن فيما بينهن في الوضع نفسه، الضّغط النّفسي من الوالدة سيجعل منها فتاة انطوائية، تكتفي بالاستماع للراديو وبصداقة واحدة ستستمر معها إلى النّهاية، صداقة مع ابنة عمّها مريم، هذه الأخيرة ستكون على النّقيض من فاطمة: حالمة، ومتحمّسة للحياة وملذّاتها. لا تطمح مثل فاطمة لإنقاذ اسم العائلة، بل تطمح إلى ما هو أسمى: الحبّ. «لا أريد أن أتزوّج فقط للإنجاب، أريد أن أكون بصحبة رجل يفكّ الوثاق عن جناحيّ لأحلق. الحبّ تحليق يا فاطمة والسّماء فسيحة قبالة عينيّ. موجعة يا ابنة عمّي، أن يبقى الإنسان يُراقب شيئاً يريده ولا يصله» تقول مريم. «فسيلة الحياة» تبدأ، بشكل هادئ، بكتابة خطيّة، قبل أن يرتفع الإيقاع تدريجياً، خصوصاً بعد اختفاء والد فاطمة، في طريقه من القرية للمدينة للتبضّع. هذا الفقد سيكون لحظة حاسمة في حياتها. «الأب هو الشّمس التي نراها في السّماء، حينما تغيب، تتعثّر خطواتنا ونتذرّع في غيابها بالمصابيح التي مهما سطعت، ستبقى كالأعمدة لا روح فيها.. الأب هو الزّاد، مهما بلغنا في الحياة يظلّ الآمر النّاهي والوتد الذي يشدّ أزرنا مهما اشتدت يداه ارتجافا» هكذا تعرّف فاطمة حضور الأب، أو الذّكر عموماً في البيت، والذي سينوب عنه لاحقاً، برق، هذا الشّاب التّائه الذي وصل إلى بيتهم صدفة، في ليلة ماطرة، مثل ليلة ميلادها، طلباً لمأوى، ليصير جزءا من العائلة، لكن سرعان ما ستفقد فاطمة أمها ثم زوجة عمّها، لتختصر الحكاية في ثلاثة أشخاص، لكلّ واحد منهم حكاية وتاريخ شخصي مختلف: فاطمة، مريم، وبرق، الذي جاء من شتات وفقد مشابهين لما عاشته فاطمة، سيتولى مهام متجر والدها، ويتزوّجها، ولكن المأساة ستستمر حين تكتشف فاطمة أنها عاقر ولا تنجب!

في خضم تصاعد الأحداث، وترابطها، ستتطوّر القرية أيضاً، وتتحوّل إلى بلدة صغيرة، تشقّ فيها طرقات، ينسحب الرّمل لصالح الأسفلت، وتفتتح فيها مدارس، ويُرافق هذا التّحول انفتاح للمرأة التي ستصير متعلّمة، وهو منطق عالمي، فتطوّر أي مجتمع إنساني يُقاس من تطّور النّساء فيه، وفي هذا الاختلاط المجتمعي سيتكشف القارئ بعض ألغاز الرّواية، سيعرف أن والد فاطمة لم يمت، بل فقط تعرض لحادث، في طريقه للمدينة، بعد سقوطه من راحلته، فقد على إثره الذّاكرة، ثم استعاد عافيته، تزوّج وأنجب طفلاً، اسمه سعيد، سيصير طبيباً، ويصل إلى مستشفى البلدة مع رفيق له اسمه جاسم، سيقع في حبّ مريم ويتزوجها، ويُساعد فاطمة على إنجاب طفل أسمته ماجد، نسبة إلى والدها، هذا الأخير سيجد نفسه، بعد وفاة والدته شخصاً غير مرغوب فيه من أبناء خالاته، لأن والده برق، ليس من العائلة ولا من القرية، هكذا تعود الرّواية في نهايتها، إلى البداية، إلى مسألة التّيه، الشّتات، والبحث المضني عن الأصول، تدور في حلقات سردية، وتتكوّر فيها الأحداث، التي تمسك بفضول القارئ حتى الصّفحات الأخيرة منها. هناك من يبحث عن أب، وهناك من يبحث عن قتل الأب، على عكس الميثولوجيا الإغريقية، فإن فاطمة تقضي حياتها بحثاً عن إعادة تشكيل وجه الأب المفقود، ستجده في صورتين مختلفتين: مرّة في زوجها برق، ومرّة أخرى في ابنها ماجد، فالرواية ليست كرونولوجيا مجتمع، يخرج من القروية إلى التمدّن، ويتحمّل مصائر تشترك فيها مجتمعات عربية أخرى، هي رواية الأبوة الضّائعة والبطريركية الهشّة، هي الرّواية الذّكر الذي يفقد سلطته أمام صوت المرأة المنادي للتخلّص من الماضي، هي رواية أناس يؤمنون بأن التّغيير يستوجب بالضّرورة خسارات وأوجاعاً وآلاماً.